Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

دبي – ودولة الإمارات عموماً - هي مجتمع مسّور مصطنع، نتاج تجربة إمبرياليّة لصنع نيوكولونيّات وظيفيّة ما بعد حداثيّة تلعب في المنطقة أدواراً أشبه ب'المنطقة الخضراء'" - كما في بغداد تحت الاحتلال الأمريكي - أو ب'"إسرائيل'" الغريبة المزروعة في قلب الشرق. لقد حققت دبي بالفعل ما لا يحلم به عتاة الرأسماليّة العالميّة"

سعيد محمد

العجول الذهبيّة (1): دبيّ... سراب لاس فيجاس هذا الجانب من العالم

"

يحبّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم - الذي يُرَّوج له في الإعلام البرجوازيّ الساذج نبيّاً للتحديث في الخليج العربيّ والشرق الأوسط - أن يبهر الزّوار المتملقين بأمثال ومأثورات تنظيريّة فارغة من طراز "كل من لا يحاول تغيير المستقبل سيبقى أسيراً للماضي". ومع ذلك فإن المستقبل الذي يبنيه في دبي، إحدى المشيخات السبع المتصالحة (بالقوّة) على شاطئ الخليج – وسط تصفيق أصحاب المليارات والشركات متعددة الجنسيّة والأصدقاء الأمريكيين – لا يشبه شيئاً بقدر ما هو كابوس من الماضي القريب، فكأنّه استنساخ منحرف لتجربة لاس فيجاس زرعت في قلب الصحراء العربيّة، ترف بصريّ معماري باذخ حول ملهى ليلي هائل للموبقات في هذا الجانب من العالم، وناد أكزوتيكيّ للقمار وتبييض الأموال لكل المتهربين من الضرائب وزعماء المافيات والفاسدين. لكّن هذه المدينة الملفقة في قلب دولة مسخ ليست في الحقيقة سوى واجهة برّاقة مزيفة لمشروع وظيفيّ محض غايته خدمة المصالح الإمبرياليّة الغربيّة في الشرق الأوسط، نسخة معرّبة من (إسرائيل)، نموذجٌ آخر سورياليّ في شبكة العواصم الإقليميّة للفساد الرأسمالي المعولم ونسخة أولى من مدن ما بعد الحداثة الاصطناعيّة.

***

دبي. غابة أبراج الكريستال الشاهقة، والشوارع الشاسعة، ومراكز التسوق الجوارسيّة، والنوادي الليلية الصاخبة، والملاهي العجائبيّة والشواطئ الساحرة – إذا تغاضينا عن الحرّ الرطوبة القاتلين في الصيف - هي واحدة من أكبر ملاذات التهرّب من الضرائب وتبييض الأموال في العالم، وعنوان سكن آخر لكبار الفاسدين من روسيا وأوروبا الشرقيّة والعالم الثالث، ومركز أعمال دولياً لدهاقنة الفساد ودونات المافيا وتجّار الرّقيق، وناد استجمام إقليمي لأفراد القوات الأمريكيّة والبريطانيّة المتمركزين في عشرات القواعد في المنطقة الصحراويّة المقفرة جوار الخليج الفارسي. وهذا تحديداً ما يجعل دبي لؤلؤة برّاقة فيما يسمى دولة الإمارات العربية المتحدة التي هي تحالف اتحاد لشيوخ سلالات فاسدة تتملك سبع ولايات صغيرة، أسسه البريطانيّون جنوب الخليج بين عُمان والبحرين وأطلقوه – بالتفاهم مع الأمريكي - تجربة أنثروبولوجية متقدّمة مزروعة في بحر من الرّمال عام 1971.

 ومع ذلك، فإنّك لن تجد من ذلك شيئاً في وسائل الإعلام البرجوازية التي تشارك تطوعاً أو مأجورة في ترويج الصورة الواهمة البرّاقة عن دبيّ (درّة الدنيا) مدينة الليل المتهتك، وتوأمها الأصغر العاصمة أبو ظبي – ساعتين بالسيّارة على طريق الشيخ زايد السريع – مدينة النّهار المتزن. يدفعك هذا الإعلام بالطبع إلى تصوّر أن المبالغات المعماريّة أبراجاً زجاجيّة وقصوراً فارهة وطرقات سريعة هي انجازات الشعب الإماراتي وتراكم ثروته النفطيّة، بينما يتم بشكل منهجي إزالة العمّال الأجانب الفقراء الذين يسكنون أحياء جانبيّة قذرة لا تليق بالبشر من الصورة، وكذلك التعمية على مصادر الدّخل الحقيقيّة للدولة: فثمّة بعض النفط والغاز دون شك لكنّه أغلبه يقع ضمن الملكيّة الشخصيّة للسلالة الحاكمة في إمارة أبو ظبي، فيما تعتمد دبيّ على تبييض الأموال، وتلاقي التجارة المشروعة بغير المشروعة، كما تقديم الترفيه والتسوّق والاستهلاك الباذخ للأثرياء، وخدمات الدّعارة الدّوليّة وفرص الإشباع الجنسي المنحرف وتذوق أنواع المتع المحرّمة التي لا تتوفر بشكل صريح في معظم المجتمعات المحافظة في الجوار الإقليمي. النظام السياسيّ للدولة – إذا صحّ إطلاق تسميات النّظام والسياسة والدولة على حكم عصابات الغوغاء – سلطة قروسطيّة الطابع مستبدّة ربطت مصالحها ووجودها ومستقبلها بالقوى الإمبرياليّة الغربيّة – بريطانيا بداية، والإمبراطوريّة الأمريكيّة لاحقاً –، وتعتمد شكلاً متطرفاً من الرأسماليّة الجشعة يعتبر نقطة تقاطع مفصليّة في المقلب الآسيويّ بين الاقتصادين العلنيّ والخفيّ للمنظومة الماليّة الدّوليّة.

وبينما يقيم في (دولة) الإمارات ما يقرب من 10 ملايين من البشر ويبلغ معدّل دخل الفرد من أعلى المستويات في العالم، فإن المجتمع هناك صيغة أنثروبولوجيّة مشوهة تنقسم بشدة إلى مجتمعات متوازية تتعايش ولا تتفاعل مع تباين حاد في الثروة والدّخل – والحقوق أيضاً - وفصل مكاني الصارم للوظائف الاقتصادية والطبقات الاجتماعية التي يتم تحديدها وفرزها عرقياً. على قمّة الهرم تتربّع فئة المواطنين الذين يشكلون أقلّ من خمس عدد السكان ويتمتعون بامتيازات اقتصاديّة وتفضيليّة في مختلف مناحي الحياة، إذ يحصلون على خدمات التعليم والبعثات إلى الخارج والصحة والضمان الاجتماعي وفرص العمل الحكومي بدخول مجزية والتقاعد المبكّر كما الماء والكهرباء مجاناً. لكن هؤلاء يحصلون على كل هذه المنافع مقابل تنازلهم التام عن حقوقهم السياسيّة بالكامل بما في ذلك مثل حرية التعبير (حيث تغريدة قد تكلّف الشخص حياته) أو التنظيم السياسيّ أو الانتماء لنقابات مهنيّة، وتقبّلهم لتقاسم غير عادل لعائدات الطاقة المملوكة لأقل من 0.2% من (المواطنين).  وبينما تعيش معظم الإمارات الشماليّة وسكانها في ظروف متخلّفة للغاية، يتم الإنفاق بتهوّر على المباني الزجاجيّة الفارهة والفلل المجمعات السكنيّة المخصصة للأجانب في دبيّ وأبو ظبي وإلى حدّ ما الشارقة. وتقدّر ثروة الأمراء الحكام الشخصيّة – دون أفراد سلالاتهم - بأكثر من 100 مليار دولار.

وفي موازاة مجتمع (المواطنين)، هناك كتلة أجانب مهمّة من جنسيات غربيّة لا سيّما البريطانيين والأستراليين وبعض العرب، كما الهنود والإيرانيين الذين يعملون في مناصب إداريّة وماليّة ومهنيّة مهمّة وهؤلاء يعيشون في مجمعات سكنيّة مغلقة وأبراج سكنيّة مخصصة للأجانب، وينفقون بسخاء لتحمّل تكلفة العيش الباهظة، لكن الخبرة الدّوليّة والرواتب العالية التي يحصّلونها تفوق عدة أضعاف ما قد يحصلون عليه في أوطانهم ولذلك يتمسكون بالبقاء في الإمارات ما استطاعوا. أما قاعدة الهرم فهي كتلة كبيرة من ملايين العمال من باكستان والهند وبنغلادش ونيبال والفلبين وبعض الدّول العربيّة الفقيرة، وهؤلاء أغلبهم عمالة غير ماهرة ويتقاضون أجوراً هزيلة بظروف عمل وعيش لا انسانيّة ودون أيّ حقوق أو حماية قانونيّة - كما هو الحال في جميع دول الخليج الأخرى -. وتقضي ظروف العيش القاسية على كثيرين منهم، وينتحر سنوياً عدة مئات غالباً ما يسجلون كضحايا حوادث عرضيّة فيما تقمع محاولات الاحتجاج بقسوة بالغة ويتم ترحيل العمال القياديين دون تردد ليعودوا إلى البطالة في بلادهم. وتضطر الغالبية العظمى من العمال في الإمارات إلى القبول بالعبودية المؤقتة لعدة سنوات فور وصولهم إلى الإمارات حيث تصادر جوازات سفرهم من قبل مشغليهم المحليين ويكونون بحاجة إلى موافقة رب العمل على أي رحلة يعتزمون القيام بها داخل أو خارج البلاد. وعندما يحدث أن تتدخل منظمات غربيّة للضغط على السلطات يتم تبني إجراءات شكليّة لذرّ الرّماد في العيون دون أي تطبيق حقيقيّ على الأرض.

وبالإضافة إلى هذه المجتمعات المنعزلة فعلياً عن بعضها، وبغير جيش من الخادمات الفلبينيّات والسريلانكيات والإفريقيّات الذي يخدم منظومة عيش القلّة المسرفة، فإن دبي هي أيضاً عاصمة التهتك الجنسي في الشرق الأوسط أو "بانكوك في الشرق الأوسط" كما يسميها البعض، حيث تسيطر العصابات والمافيا الدّوليّة على آلاف البغايا الروسيات والأرمنيات والهنديات والإيرانيات والعربيّات اللواتي يتسكعن في حانات الإمارة لالتقاط الزبائن. تجارة الجنس الشريرة هذه مبنية على سلسلة متراكبة من التفاهمات من قبل قوادين من العائلة الحاكمة، وقوى الأمن وزعماء العصابات والفنادق الكبرى وتعتمد الاختطاف والعبودية والعنف السادي لضمان استمرار أكبر ماخور مفتوح لصناعة الدّعارة في الشرق الأوسط برمته بدرّ الأرباح على المشغلين دون إثارة المشاكل. عندما يتحدّث المغتربون عن "انفتاح" دبي الفريد في المنطقة العربيّة وتسمح شيخها، فإن هذه الحرية تعني حصراً الترتيبات التي تسهّل السياحة الجنسيّة، وليس بالتأكيد حريّة تنظيم النقابات أو التعبير أو المشاركة في العمل السياسيّ.

يظهر نظام دولة الإمارات كما وحش خيالي لا يشبع من  الخرسانة والصلب، منجم كنز لا ينضب للمعماريين والمقاولين وشركات مواد البناء الذين ينتجون بلا توقف فوائض بصريّة وبيئيّة، فتم تحويل رقعة من الصحراء القاحلة ترتفع فيها درجات الحرارة في الصيف إلى مستوى 55 مئويّة مع درجات رطوبة لا تطاق إلى متحف لتجارب معماريّة وإنشائيّة بمقاييس غير انسانيّة تستهدف أساساً تكريس أسطورة دبي والإمارات كمجمّع ترفيهيّ ضخم تولت تنفيذها كبرى شركات الهندسة والإنشاءات وتضم خليطاً أقرب إلى معجون من هلوسة متعاطين للأكبر والأسوأ والأقبح من الجزر الاصطناعية، و"جبال الثلج" المغطاة بقبب زجاجية، والمدن المتخصصة داخل المدن، والإنشاءات الكبيرة بما يكفي لترى من الفضاء وأكبر مدينة ملاهي في العالم، وأوسع مركز تجاري (وداخله، أكبر حوض أسماك)، وأعلى برج، وأكبر مطار دولي، وأول فندق غارق، .... فكأنّها كولاج تلفيقيّ هلامي بلا هويّة محددة يجمع قطعاً متناقضة من لاس فيغاس ومانهاتن وأورلاندو وموناكو وسنغافورة ولندن معاً. على أنّ هذه الفورة ما لبثت وتلقت ضربتين قاسيتين أولها كانت الأزمة الماليّة العالميّة 2008 والثانية في 2020 بعد تفشي وباء كوفيد – 19. ولأن اقتصاد دبي - والإمارات عامّة - ليس منتجاً، فهو يرتبط عضوياً بأوضاع النظام الرأسمالي العالمي ويسقم مع كل أزماته المتلاحقة. ومن شأن الأزمة الاقتصادية الحاليّة المتفاقمة، وتراجع أسواق السفر والسياحة إن استمرت أن تُؤدي إلى إنهاك ماليّة الدّولة، ولن تتمكن حتى الصناديق السياديّة الاستثماريّة الضخمة من إنقاذها، إذ كانت دبي قبل الأزمة الأخيرة تستهدف الوصول إلى 25 مليون زائر من الخارج سنويًا بحلول عام 2020، ولكنّها الآن لا تستقطب ولو ربع هذا العدد.

وعلى الرّغم من الشكل الخارجيّ لدبيّ كواحة رأسماليّة لممارسة الأعمال الخاصّة، فإن الإمارة برمتها مُلك إقطاعي قروسطيّ الطابع للسلالة الحاكمة التي يمتلك أفرادها كل حبّة رمل مربحة، فيما تعمل الدّولة كحاضن لشركات ضخمة تتنافس فيما بينها على إثراء ذات المالك. ويتكرر الأمر بالطبع في أبو ظبي وبقيّة الإمارات.

ومع ذلك، من جزء كبيراً نمو الإمارة يتحقق بفضل المدن المتخصصة داخل المدينة: مثل مدينة الإعلام والإنترنت وقرية الرعاية الصحيّة ومركز دبي لتجارة المعادن والسلع كما مدينة المعارض. وتراهن العائلة الحاكمة على مركز دبي المالي العالمي لمنافسة أسواق الاسهم الرئيسيّة العالميّة في فرانكفورت وباريس ولندن ونيويورك وامتصاص أموال المافيات والنخب الفاسدة في قارات العالم القديم لتبييضها دون تشريعات دقيقة.

طموح دبي الاستثنائي مبني في الحقيقة على تاريخها الطويل كملاذ للمهربين والقراصنة وتجار الذّهب واللؤلؤ. وقد منحت معاهدة مبكرّة مع لندن السلطة على الشؤون الخارجية للبريطانيين مقابل إبقاء العثمانيين والعصابات الطامعة خارج المنطقة التي كانت تعرف آنذاك باسم "ساحل القراصنة". وبقي صيد اللؤلؤ والتهريب الدعامات الأساسية لعيش سكانها القلائل إلى أن بدأت الثروة النفطية في توليد الطلب المتزايد على خدمات الموانئ التجارية في المنطقة. وحتى عام 1956، عندما تم بناء أول مبنى خرساني، عاش السّكان بأكملهم في منازل تقليدية من سعف النخيل، واعتمدوا على الآبار الارتوازية للحصول على قليل من الماء لهم ولحيوانات الماعز التي يقتنونها. وبعد الانسحاب البريطاني من شرق السويس في عام 1968، أمرت لندن الشيخ راشد أمير دبيّ وحاكم أبو ظبي الشيخ زايد، بإنشاء دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971، كسدّ في وجهه تهديد ثورة ظفار الماركسيّة في عمان. وبعد الثورة الإسلاميّة في إيران 1979، أصبحت دبيّ ملاذاً لمجتمع كبير من المنفيين الإيرانيين، وكثير منهم تخصص في تهريب الذهب والسجائر غير المنظمة والمشروبات الكحولية إلى وطنهم المتشدد، وإلى الهند. ولاحقاً جذبت الإمارة أعداداً كبيرة من الإيرانيين البرجوازيين الأثرياء الذين يستخدمون دبي كقاعدة للتجارة بعيداً عن العقوبات الدّوليّة كما الاستمتاع بحياة البذخ والتهتك بعيداً عن عيون ملالي طهران. ويعتقد بأن إيرانيين يمتلكون ما لا يقل عن ثلث الثروة العقاريّة في المدينة. ومن المعروف أن السوق السوداء خلف كواليس الشركات العلنيّة مزدهرة في الدّولة، كما إدارة أموال طالبان وتنظيم القاعدة المتراكمة من وراء التجارة بالمخدرات. بالإضافة إلى ذلك، قدم آل مكتوم على مدى عقد من الزمن تقريباً ملجأً فاخراً لرجل المافيا الأسطوري الهندي داوود إبراهيم. ووفقا للحكومة الهندية، استخدم داوود، الذي يعمل مع الاستخبارات الباكستانية، دبي كقاعدة لتنظيم تفجيرات "الجمعة السوداء" في بومباي (1993) التي أسفرت عن مقتل 257 شخصاً. وعلى الرغم من أن الهند طلبت رسمياً من الإمارات اعتقال داوود، فقد سُمح له بالفرار إلى كراتشي، فيما استمرت منظمته الإجراميّة بالعمل كالمعتاد في الدّولة. تتمتع دبي الآن باعتراف من واشنطن كشريك في الحرب على الإرهاب، وكموقع متقدّم للتجسس على إيران وقاعدة لوجستية هامة لتنقلات القوات الأمريكيّة كما وتعد القاعدة الرئيسية للشركات الغربيّة في الإقليم.  

تحالف حكام الإمارات تاريخياً مع النظام الملكي السعودي لمنع نجاح أي حركات عمالية ماركسيّة في أي بلد عربيّ، وتآمروا مع آل سعود لإضعاف الجمهوريّات سواء في العراق أو سوريا أو مصر أو ليبيا فيما يستمرّون بدعم الأنظمة الرجعيّة وتمكينها، وهما يقودان الآن مشروعاً لمنع نهضة اليمن بمحض القوّة لما يمكن أن يشكلّه هذا البلد من تهديد استراتيجيّ (بحكم موقعه وكثافته السكنيّة) لكلا النّظامين، كما يتوليّان بصفاقة قيادة قاطرة التشبيك العربي العلني بالكيان (الإسرائيلي). وبالتأكيد فإن الاندفاع الحماسيّ للتطبيع يتضمّن على مستوى ما - وإضافة إلى الإندراج الموضوعي في المنظومة الإمبرياليّة العالمية والحرص على تنفيذ توجهاتها كمبرر وحيد للبقاء في دائرة الاستفراد بالسلطة والثروة – نوعاً من الجشع التجاريّ الطابع لتعظيم إمكانات الدّولة/الزريبة عبر بناء شراكة تامة مع نظام يستثمر فيه الغرب بكثافة مالياً وتقنياً وسياسياً. ومن هذه الزّاوية يفهم أيضاً تاريخ العلاقات الإماراتيّة المبكّر مع إسرائيل لناحية التعاون الأمني والتكنولوجيّ والتسليحيّ المستمرة منذ السبعينيّات، إضافة إلى تقديم محطة عمل مريحة للموساد في موضوع التجسس على إيران.  

دبي – ودولة الإمارات عموماً - هي مجتمع مسّور مصطنع، نتاج تجربة إمبرياليّة لصنع نيوكولونيّات وظيفيّة ما بعد حداثيّة تلعب في المنطقة أدواراً أشبه ب"المنطقة الخضراء" - كما في بغداد تحت الاحتلال الأمريكي - أو بـ"إسرائيل" الغريبة المزروعة في قلب الشرق. لقد حققت دبي بالفعل ما لا يحلم به عتاة الرأسماليّة العالميّة: واحة تامّة من انعدام الضرائب يقودها تاجر متطرّف بالجشع تقوم الدّولة فيها بحماية الأموال والمصالح، وفضاء حريّة متفلّت من القيود في تجميع الأرباح وتبييض الأموال، مع غياب كليّ لمبدأ حقوق بشر الطبقات الدنيا من الهرم من عمّال وموظفين ومقدمي الخدمات الجنسيّة، وانخراط تام في شبكة تدفق النقد كعقدة ترابط بين الاسواق البيضاء والسوداء ونقطة ارتكاز لوجستي وأيديولوجي اقليميّة لخدمات جيوش الهيمنة الإمبرياليّة العسكريّة والماليّة والثقافيّة.

من نقاط قوتها كعقدة رأسماليّة يأتي كعب أخيل دبيّ – والإمارات – الاستراتيجي. إذ أن اعتمادها المباشر على ازدهار الاقتصاد العالمي، وسيولة حركة المال والأشخاص، وهي أمور ترتبط بظروف أزمات متلاحقة وفقاعات متعاقبة بحكم التكوين الرأسماليّة مما يجعل منها حتماً ضحيّة لكل تغيير معولم. كما أن بنيتها السكانيّة والقانونيّة والبيئيّة مزورة وغير طبيعيّة وقابلة للزلزلة في أي وقت، ويمكن أن تتحوّل إلى مدينة أشباح خلال وقت قصير حال توقفت محطات تحلية المياه والكهرباء عن العمل ناهيك عن سهولة شلّها باستهدافها بالصواريخ بعيدة المدى عند اندلاع حروب اقليميّة، وهذه كلّها تجعل من البريق مجرّد لحظة عابرة في مسيرة محتّمة إلى فناء أكيد. 

 

"

كاتب عربي مقيم في لندن